“عظمة على عظمة يا ست”.. جملة يرددها عشاق أم كلثوم منذ أن كانت تُطربهم على خشبة المسرح، وحتى يومنا هذا، بعد أكثر من خمسين عام مروا على وفاتها. الست أم كلثوم، تركت للفن تراثاً يجمع نحو 320 أغنية، من لقاء السحاب “إنت عمري“، و”الأطلال” التي صُنفت من ضمن أفضل مائة أغنية أنتجت في القرن العشرين، إلى رائعة “ألف ليلة وليلة“، والكثير من الأغاني التي نحبها. وُلدت أم كلثوم، أو فاطمة ابراهيم، نهاية عام 1898 في محافظة الدقهلية، وانتقلت إلى القاهرة مع أسرتها عام 1921، وبدأت رحلتها للشهرة عام 1924 عندما تعرف عليها الموسيقار رياض القصبجي، ومنذ ذلك الحين، وقد قُدر لكاتب التاريخ أن يملأ صفحات الفن بألحان وجُمل لا ينتهي وصف جمالها حتى يجف حبره.
تربعت مسيرة أم كلثوم على عرش الغناء طوال ستين عاماً، وغنت لأشهرالشعراء المصريين من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد رامي وإبراهيم ناجي، والأمير السعودي عبد الله الفيصل، والشاعر محمد إقبال. ولحن لها عظام الملحنين من رياض السنباطي وكمال الطويل وبليغ حمدي، ومحمد عبد الوهاب الذي دامت العداوة بينهم سنوات طويلة قبل أن يتم الصلح بينهم في أغنية “إنت عمري“، التي وُوصفت ب “لقاء السحاب”، أي التعاون بين “الأستاذ” و”الست”، واضعين نهاية للمنافسة الشرسة بينهم.
وتربعت الست على قلوب المصريين والعرب كما تربعت على عرش الغناء، حيث لم يقتصر حبها على الجمهور فقط، فقد حضر حفلاتها رؤساء وأُمراء وملوك، فقد جلس أمامها وهي تغني كل من حكم مصر بداية من الملك فاروق، مرورا بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر وصولا إلى الرئيس الراحل أنور السادات. ولم تسعها كل خشبات المسرح في مصر والوطن العربي، فكان لخشبة مسرح الأولمبيا بباريس الحظ في استضافة كوكب الشرق عام 1967.
وحازت كوكب الشرق خلال مسيرتها الفنية على العديد من الجوائز والأوسمة من عدة دول عربية وأجنبية منها: وسام الكمال من الملك فاروق، وجائزة الدولة التقديرية، ووسام الأرز اللبناني، ووسام النهضة الأردني، ونيشان الرافدين العراقي، ووسام الاستحقاق السوري، ووسام نجمة الاستحقاق الباكستاني. ورحلت الست عن عالمنا في الثالث من فبراير عام 1975، تاركة لنا إرثاً ثميناً من فنها الذي لا يموت، بين “أمل حياتي” و”سيرة الحب“، و”الحب كله“، وكثير من أصل 320 أغنية ملأت قلوبنا حباً ودفئ.
منذ وفاة سيدة الغناء العربي، ولم يعتلي هذا اللقب فنان آخر، فقد مرت على بلادنا العديد من المواهب والأصوات العذبة التي أطربتنا ونحب سماعها، وحتى منهن من شبهناها بأم كلثوم، مثل المطربة آمال ماهر، لكننا لم نحظى قط ب”أم كلثوم جديدة”. وتقديراً لهذا الصوت الفريد والكيان العظيم ممثلاً في كوكب الشرق، عمل الكثير على تكريم وإحياء ذكراها، من لوحات الكاريكاتير خاصة جورج بهجوري، الذي كانت أم كلثوم ملهمة لوحاته التي أضاءت معرضه في بيكاسو، وتشييد تمثالين لها واحدا بحي الزمالك والأخر بمسقط رأسها المنصورة، وأُنتج مسلسلاً يروي سيرتها الذاتية من بطولة الفنانة صابرين، حتى أنه تم إنشاء “متحف أم كلثوم”، الذي يقع في جزيرة الروضة بالمنيل، تخليدا لذكرى سيدة الغناء العربي وتقديرا للدور الذي لعبته في إثراء الوجدان المصري والعربي، حاوياً بداخله مقتنياتها الشخصية من المجوهرات والفساتين التي كانت ترتديها خلال حفلاتها، والأوسمة التي حصلت عليها في حياتها، وحتى نظارتها الشمسية المشهورة.
وتحتفل مصر في شهر فبراير الجاري بالذكرى المائة على المرة الأولى التي غنت فيها الست أم كلثوم، حيث كانت بداياتها على خشبات مسارح البوسفور وحديقة الأزبكية، تنشد القصائد والطقطوقات، و اشتهرت بقصيدة “وحقك أنت المنى والطلب” التي كانت أول اسطوانة تصدر لها في عام 1924، وبيع منها ثمانية عشر ألف نسخة آنذاك.
لم تكن التماثيل والأوسمة والمتاحف والسير الذاتية الموثقة كلها ابداً كافية لتكريم المسيرة الحافلة لكوكب الشرق، فكان ضرورياً أن يشهد كل ركن في العالم إرث هذه المعجزة الخالدة، فهذا العام، تُحيي هيئة التنشيط والسياحة المصرية ذكرى سيدة الغناء العربي بحفل “100 سنة أم كلثوم” بين جدران المتحف المصري الجديد، الذي من المقرر أن يقام في الحادي والعشرين من فبراير الجاري، في ليلة يُحييها كوكبة من ألمع نجوم الوطن العربي، وهم الفنانة ريهام عبد الحكيم، والفنانة مروة ناجي، والفنانة إيمان عبد الغني، بقيادة المايسترو والموزع الموسيقي محمد الموجي، مقدمين أشهر أغاني كوكب الشرق التي مازالت عالقة في أذهاننا وخالدة في قلوبنا.
المنتجة السعودية منى خاشقجي، كانت تدرك أيضا ضرورة أن يدرك العالم والأجيال الحالية المسيرة الحافلة لكوكب الشرق، فعكفت على تحقيق ذلك، حتى احتضن مسرحيتها الغنائية “أم كلثوم والعصر الذهبي” أعرق المسارح في أنحاء شتى من العالم، من أوبرا دبي، إلى مسرح البالاديوم بلندن حيث عُرضت للمرة الأولى عام 2020، ومرة ثانية في الخليج العربي على مسرح إثراء في الظهران بالمملكة العربية السعودية، وأخيراً هذا العام على خشبة مسرح البحرين الوطني. وتسرد المسرحية قصة حياة أم كلثوم ممثلة في رواية غنائية، وأطلقت منى على المسرحية إسم “أم كلثوم والعصر الذهبي” ليس فقط لتوثيق السيرة الذاتية لصوت مصر، بل أيضا للاحتفاء بعمالقة الفن التي عاصرتهم مثل محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب وتحية كاريوكا، وحتى منيرة المهدية.
ليس فقط حياة أم كلثوم وتراثها الفني هم الأشياء الوحيدة المثيرة للاهتمام حولها، فمثلا، أنت ونحن وكثيرون يقولون لقب “كوكب الشرق”، إنه نعت عظيم حقاً، ولكن، من أين جاء هذا اللقب، ومن العبقري الذي أطلقه عليها؟ كان المذيع محمد فتحي الشهير بكروان الإذاعة، الذي كان ينقل حفلاتها على الهواء مباشرة طوال الأربعينات، هو صاحب اللقب الذي رافقها طوال حياتها، وكان يقصد بذلك تميزها عن غيرها من النجوم بأنها أكبر من نجوم الشرق.
ومازلنا ننتظر كيف سيكرم الفن كوكب الشرق أم كلثوم خلال السنوات القادمة.